باقية في الأذهان الفتوة..شخصية اندثرت في شوارع مصر


كتبت: شروق طارق ونادية جمال وإسراء سعيد

غالبا أول ما يتبادر إلى الأذهان عند لفظ كلمة الفتوة الصورة السينمائية لرجل ضخم البنية يرتدي الجلباب البلدي والعمة، ذو شارب كبير، وصوت جهوري يهابه الناس ويتوددون له، وهي صورة أقرب ما تكون لهيئة الفنان الراحل "فريد شوقي" الذي قام بتأدية هذا الدور في عدد من الأعمال منها فيلم يحمل اسم "الفتوة"، فقد شكل الفتوات جزءً ا كبيرا من تاريخ المجتمع المصري وكانوا أبطال لكثير من حواديت الشوارع وسير الحارات الشعبية التي حكموها.

فكيف بدأ الفتوة؟

حكم المماليك مصر بالوكالة تحت الدولة العثمانية مقابل تأدية مبلغ سنوي من المال، كان غالب هؤلاء المماليك في بداية أمرهم يتميزون بالبسالة والمهارات العسكرية العالية والتمسك بالديانة واستطاعوا أن يكونوا ظهير شعبي لهم من المصريين، ولكن انقلب الأمر بعد ذلك وانهارت الدولة وأدار البلاد بقايا المماليك وأصبح الحكم أشبه بحكم العصابات، وتعرض الأهالي لفرض الإتاوات في صورة ضرائب، فظهر الفتوات وهم مجموعات من المصريين كونوا فرقا تولت حماية الأهالي والأسواق والتجار يدافعون عن الأحياء مقابل المال، وشيئا فشيئا أصبح لكل حي في محافظات مثل القاهرة والأسكندرية والمنصورة فتوة لها يحميها ويصد عنها، كما ذكر "الجبرتي" فقد تصدروا الكثير من المشاهد في رفع ظلم المماليك عن الناس في أواخر حكمهم، واكتسبوا من خلال ذلك شرعية غير رسمية في قيادة الشوارع وتولي الحكم الشعبي.
كما كان لهم دور كبير في مقاومة الحملة الفرنسية أثناء ثورات القاهرة عليهم، فعانى منهم الفرنسيون كثيرا وسعوا للقضاء عليهم، على عكس الاحتلال الإنجليزي الذي جاء فيما بعد فقرر احتواء الفتوات واستعمالهم في السيطرة على الشوارع. فكانت العشرينات هي ذروة عالم الفتونة وأكثر عصورهم ازدهارا وتأثيرا؛ فقد اكتسبت المهنة صفاتها وتشكلت أصولها ومبادئها وشرعت القوانين التي تحكمها، وتبلورت هذه الظاهرة داخل المجتمع المصري.

 تزامن ذلك مع المحاولات السينمائية الأولى التي حدثت في مصر طوال العشرينات والثلاثينات لصناعة سينما احترافية وأفلام تضع مصر على خريطة التطورات الفنية في العالم وتعرف المصريين على ذلك الاختراع المكتشف حديثا، فساهمت تلك الأفلام في توثيق ظاهرة الفتوات ورصد دورهم وشكل وجودهم داخل الحواري المصرية، حتى جاء "نجيب محفوظ" الأديب الذي شاهد وعايش عصرهم واتخذ من شخصية الفتوة عنصرا أساسيا في أدبه، عبر من خلاله عن مفهوم القوة والسلطة والظلم والبطش أحيانا والعدل والرحمة ونصرة المظلوم أحيانا أخرى، فكان الفتوة هو الشخصية الواقعية التي اختارها نجيب ونقلتها عنه السينما؛ لتكون رمزا لمن يملكون زمام أمور الناس ويتحكمون فيها بما لديهم من سطوة وبسط نفوذ الخير أو الشر، ويمكن القول أن أدب نجيب محفوظ هو ما نقل السيرة الشعبية عن الفتوات إلى مرحلة أخرى أكثر رحابة وقربا لعالم الفتونة الحقيقي الذي مثل في صراعاته الحياة بشكل عام.

لمئات السنين كان الفتوة وإن لم يكن بشكله المعروف جزء من التراث الشعبي الشرقي، فالفتوة هو الشخص القوي الشجاع الذي يجير المظلوم ويغيث الملهوف ويشد أزر الضعفاء ويستنجد به الناس كما صوره نجيب في "الحرافيش"، فكان "عاشور الناجي" الذي جعل مصيره مبهم ليستحضره الضعفاء دائما وقت الأزمات وينتظرون عودته ويأملون في نجدته لهم.

تقول الكاتبة والناقدة ناهد صلاح في كتاب "الفتوة في السينما المصرية" الفتوة حاكم شعبي سواء اختاره هذا الشعب أو فرض نفسه بالقوة على الناس، في الأحوال العادية، ولكي يستمر الفتوة في موقع سلطته فإنه يتحتم عليه أن لا يستند إلى القوة فقط، وإنما يضيف إلى سلوكه وأعماله ما يجعل الناس تحبه، كأن ينصر الفقراء ويقيم العدل ويلعب دور الحكيم ويرتب الحياة في الحارة التي يحكمها بحيث يظل الجميع قانعين به مدينين لحمايته، فهو على سبيل المثال يأخذ الإتاوة من القادرين ليعطي المحتاجين. 

ولكن إذا كان المشهد كذلك فكيف اختفى الفتوات؟

ذكر الكتاب أن زوال عصر الفتوات في مصر لم يحدث فجأة بعد ثورة يوليو، فقد تم التمهيد لإغلاق هذه المنظومة في نهاية ثلاثينات القرن العشرين، حين أرادت الشرطة المصرية التخلص من الفتوات، بعد أن كانت تستعين بهم عند القبض على أحد اللصوص، ولم يكن بإمكانها فعل ذلك إلا باللجوء إلى الحيلة وإحداث الفتنة في ما بينهم، وهو الأمر الذي نجحت فيه، حيث تحارب الفتوات وسقطوا واحداً بعد الآخر في معارك مدبرة حتى اختفت تلك الظاهرة تماما بعد عام 1952.

 ولكن أحيانا تسترجع الذاكرة الشعبية الفتوات في أوقات الأزمات وانتشار العنف وإن كانت تخطئ في تصور بعض أعمال البلطجة كأنها من عمل الفتوات، فهي ليست ذاكرة مشوهة ولكنها مليئة بالكثير من المرئيات التي عبرت عن القوة والتحدي والسطوة على الآخرين سواء في شكل فتوات أو كبار المنطقة.