كتبت- نادية جمال وشروق طارق وإسراء فتيان:
في ليلة من ليالي سبتمبر قبل عامين، إذا بمئات من الشباب يحتشدون
بمنتصف شارع عماد الدين، ونتيجة لنظام الجلوس الحر الذي تعتمده سينما
"زاوية"، امتلأت المقاعد فجأة بمجرد فتح باب القاعة للدخول، لم يجد
العشرات مقاعد كافية للجلوس، فجلسوا على أرضية القاعة وعلى سلالم المدرجات، غُلقت
الأبواب، وأُطفأت الأنوار، وهدأت الأصوات، لتبدأ الشاشة بعرض فيلم "عودة
الابن الضال"، بعد 42 عاماً من عرضه للمرة الأولى عام 1976.
في عام 2018، وتزامنا مع الذكرى العاشره لرحيله، وتحت عنوان
"أفلام يوسف شاهين النسخ المرممة"، أعلنت سينما "زاوية" بعماد
الدين عن جدول عروض لأفلام المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين. شمل جدول العروض 20
فيلماً منهم (بابا أمين - سيدة القطر - صراع في الوادي - صراع في الميناء -
إسكندرية ليه - إسكندرية كمان وكمان - حدوتة مصرية - اليوم السادس - باب الحديد -
وداعاً بونابرت - عودة الابن الضال). استهلت زاوية عروضها يوم 12 سبتمبر بفيلم
"باب الحديد"، وكانت الخاتمة يوم 22 من الشهر ذاته مع أفلام "اليوم
السادس" و"وداعاً بونابرت" و"صراع في الوادي". قوبل
المشروع بترحاب كبير من النقاد ومحبي السينما بشكل عام، ومن الأوفياء لسينما
المخرج المتفرد على وجه الخصوص.
بعد وفاة المخرج المصري عام 2008، شرعت المخرجة المصرية ماريان خوري،
ابنة شقيقة شاهين، بالتعاون مع أخيها جابي، لجمع تراث خالهما الراحل والبدء في
ترميمه وطرحه مرة أخرى. بدأت الرحلة بالشراكة بين شركة أفلام مصر العالمية،
المنتجة لأغلب أفلام شاهين، وجهات أجنبية متعددة أشهرهم السينماتيك الفرنسي، وهي
واحدة من أكبر المكتبات السينمائية في العالم، وتحملت نحو 80% من تكلفة الترميم.
اختيرت الأفلام التي خضعت للترميم بناءًا على أهميتها، وكانت الأولوية التامة
للأفلام المنتجة قبل عام 2000. استمر المشروع عشرة أعوام، ليتم طرح الأفلام
المرممة للعرض في عام 2018، وأعلنت ماريان خوري إن هذه مجرد بداية، وإن المشروع
مستمر حتى يتم ترميم أفلام شاهين بالكامل، والتي لا تملكها شركة مصر العالمية.
ترميم الأفلام يعني إعادة إحياء الأفلام القديمة وتقريب نسخة الفيلم
التي تتعرض للتحلل والتلف بفعل الزمن لأصلها بأكبر قدر ممكن، عن طريق إصلاحها الذي
يتم على النيجاتيف الأصلي للفيلم باستخدام أدوات تكنولوجية حديثة، لمعالجتها
رقمياً، وإعادة طبعها من جديد. ويتم الاستعانة بنسخ الأفلام الأصلية لمطابقة النسخ
المعدلة بها، من حيث الشكل والتكوين والصوت وملائمة الصورة، لتكون الأفلام بنفس
تكوينها الذي تركه عليها صانعها، لكن بصورة وشكل أفضل.
يقول بعض المتخصصين إن نسخة الفيلم تبدأ بالتحلل والتلف بعد 30 عاماً
من حفظها، نتيجة للآليات الخاطئة في عملية الحفظ. فيما يرى آخرون إن الفيلم
السينمائي يمكن الحفاظ عليه لأكثر من مائة عام، إذا حُفظ في مستودعات خاصة، وتم
تثبيت درجة حرارة عند 10 درجة مئوية، ونسبة رطوبة لا تزيد عن 50%. بجانب التخلص من
الحشرات الطفيلية وعوامل الأكسدة وغيرهما من الملوثات التي تؤدي إلى تلف الأفلام
كيميائياً، كما إن نوع علبة التخزين وطريقة الحفظ والوضع على الأرفف تؤثر على
سلامة الفيلم.
كان المخرج المصري يوسف شاهين محظوظاً، مقارنة بوضع مخرجين آخرين.
ففي مئوية مخرج الروائع حسن الأمام، أجرت ابنته الصحفية زينب الإمام حواراً مع
مجلة "روزاليوسف"، طالبت فيه بالنظر في أمر ترميم أفلام والدها الراحل
منذ 1988، قائلة: "أفلام والدي معرضة للتلف، ولابد من النظر في أمر ترميمها
لطرحها على الأجيال القادمة، ليتعرفوا على أعمال مخرج أثرى تاريخ السينما المصرية.
ماريان خوري كانت لديها القدرة على ترميم أفلام يوسف شاهين، وأنا وأبناء مخرجين
آخرين كصلاح سيف وعلي بدرخان ليست لدينا القدرة على ذلك، وتراث آبائنا معرض
للضياع".
وبعيداً عن التأرجح بين الحظ والنسيان، وقبل مطالبة الدولة بالنظر في
أمر الترميم، لابد أن يكون هناك أرشيف جامع (سينماتيك) أولاً للأفلام المصرية منذ
بدايات صناعة السينما وإلى الآن، حتى يتسنى إصلاحها، فهل تمتلك مصر تراثها
السينمائي؟
السينماتيك..محاولات للإحياء
"أوصيكم بتقوى الله، احرقوا كل أفلامي ماعدا فيلم سيف الإسلام خالد بن
الوليد". كانت هذه أخر وصية أوصاها الفنان الراحل حسين صدقي لأهله، قبل رحيله
في السادس عشر من فبراير عام 1976، حسبما صرحت زوجته سميرة المغربي.
في ندوة بعنوان "ترميم الأفلام"، عقدت على هامش فعاليات
مهرجان القاهرة السينمائي في دورته ال37، وقف الباحث والمخرج المصري محمد كامل
الأيوبي لينادي بضرورة إصدار قانون مصري لحفظ النيجاتيف والتراث السينمائي المصري،
لضمان عدم ضياعه أو إتلافه أو التصرف فيه بطريقة همجية.
وقال الأيوبي غاضباً: "وقفت هنا منذ خمس سنوات، وتناولت ندوة
نظمها نفس المهرجان نفس القضية، بحضور نفس الضيوف، وكانت هناك بشائر لتخصيص قصر
عمر طوسون لتدشين السينماتيك المصري، لكن الفكرة الرائعة تلاشت". وعبّر
الأيوبي عن أسفه تجاه توصية فنان لأهله بحرق أفلامه لإنها "حرام"، وقيام
منتج شهير بسحب أفلام زوجته بحجة إنها تحتوي على مشاهد "غير لائقة".
وبعد 3 سنوات من مناشدة الأيوبي، تحديداً في يوليو 2018، أصدرت وزيرة
الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم قراراً بإنشاء أول سجل في تاريخ السينما المصرية
لتوثيق التراث السينمائي منذ عام 1896 وإلى الآن، بالمركز القومي للسينما.
خالد عبد الجليل، مستشار وزيرة الثقافة لشؤون السينما قال:
"إنشاء السجل السينمائي لن يترتب عليه أي قيود جديدة على السينمائيين أو
المنتجين في التصرف فيما يملكون من أفلام، وإنما سيتم إيداع نسخة غير قابلة
للتداول التجاري من قبل الوزارة، سيكون حفظها للأجيال القادمة، على أن يكون التصرف
في الأفلام سواء بالبيع أو الإهداء أو المشاركة في المعارض الخارجية عن طريق
الوزارة، دون أن يكون لها حق التدخل في أي تصرف من قبل ملاك الأفلام".
بموجب القرار سيتم تسجيل الأفلام المصرية والمقتنيات
السينمائية بمختلف أشكالها وأنواعها بهذا السجل، والذي سيكون التوثيق به
"جواز مرور"، مع احتفاظ أصحاب الأفلام بكل الحقوق المادية والٱدبية التي
يتضمنها قانون الملكية الفكرية، وتتعهد الدولة بالقيام بجميع الإجراءات اللازمة
لصون هذا التراث وترميمه ورقمنته والحفاظ عليه وعرضه بكل المقاييس العلمية
والعملية العالمية. إلى الآن تبدو الأمور جيدة وفي طريقها للرشاد، ولكن هل يمتلك
المركز القومي للسينما نسخ النيجاتيف الخاصة بالأفلام المصرية المنتجة قبل صدور
هذا القرار أصلاً؟
والحقيقة، إن مصر أو بالأدق المركز القومي للسينما، لا يمتلك النسخ
النيجاتيف الخاصة بأغلب الأفلام المصرية، حيث تحتفظ الدولة المصرية بنحو 1572 فيلم
فقط، بينما تمتلك قنوات روتانا 1700 فيلم مصري، فيما كانت تمتلك قنوات ART عدد يقدر ب1500 فيلم مصري.
نتيجة للقانون الذي أباح للتلفزيون الرسمي امتلاك الأرشيف الكامل
الخاص بالإنتاج السينمائي لمدة 50 عاماً، مقابل 50 جنيه للنسخة، اتجه عدد من ورثة
صناع السينما إلى بيع النسخ النيجاتيف الخاصة بعدد كبير من الأفلام إلى شركة
"سانيلاند" القبرصية، مقابل 20 ألف جنيه للنسخة الواحدة.
وفي عام 1993 بعد ظهور راديو وتلفزيون العرب ART، اتضح إن مالكها رجل الأعمال السعودي صالح كامل، كان أحد ملاك
الشركة القبرصية، وبموجب هذا أصبح في قبضته 3200 فيلم مصري، قامت قنوات ART ببيع 1700 فيلم منهم لمجموعة قنوات روتانا، المملوكة لرجل الأعمال
السعودي الوليد بن طلال، في صفقة كبيرة من نوعها، وتبقى لديها 1500 فيلم من تراثنا
السينمائي.
قام المنتج السعودي صالح كامل بإصدار توجيهاته عقب إحكام قبضته على
تلك الأفلام، فأشار إلى ضرورة حذف جميع مشاهد زوجته الفنانة المصرية صفاء أبو
السعود، التي تظهر فيها بملابس "غير لائقة"، مع حذف المشاهد التي تحوي
مادة "خليعة"، ومنع أفلام بأكملها لأسباب دينية، ولسخرية القدر، كان من
بينهم فيلم "خالد بن الوليد"، وهو الفيلم الوحيد الذي أوصى الفنان حسين
صدقي بعدم حرقه مع باقي أفلامه، قبل التقاط أنفاسه الأخيرة.
كل هذا يجعل قرار وزيرة الثقافة في مأزق، فنحن بحاجة إلى امتلاك
تراثنا أولاً، قبل الشروع في تسجيله.
مصر السينمائية
في منتصف ديسمبر من عام 2018، كشفت الهيئة العامة للاستعلامات عن
برتوكول تعاون بينها وبين مدينة الإنتاج الإعلامي، لترميم وإعادة إحياء لمواد
وثائقية من جريدة مصر السينمائية، ولم يُكشف كثيراً عن تفاصيل ذلك الإعلان.
وفي تصريحات خاصة لمجلة "دهاليز"، يحكي الدكتور
عبد الناصر أبو بكر المستشار الفني لمشروع إحياء التراث المرئي والمدير التنفيذي
ورئيس التحرير السابق بجريدة مصر السينمائية عن تفاصيل ذلك المشروع، موضحا إن
الهيئة العامة للاستعلامات تمتلك إرثاً تاريخياً مرئياً متمثلاً في أعداد جريدة
مصر السينمائية، يحكي مسيرة مصر سياسياً واجتماعياً وتاريخياً وثقافياً، منذ عام
1952 وحتى 2017، وتعد هذه الأعداد توثيق سينمائي للأحداث القومية بمصر والعالم.
وتحتفظ الهيئة العامة للاستعلامات بهذه الوثائق على شرائط سينمائية
35 مم، حيث يواجه هذا الأرشيف تحدٍ كبير من أجل الحفاظ عليه، وقامت الهيئة بعمل
مشروع قومي؛ من أجل الحفاظ على هذه الشرائط السينمائية وتحويلها إلى الصيغة
الرقمية بأعلى جودة ممكنة، وهو مشروع إحياء التراث المرئي السينمائي ويتمثل في
معالجة الشرائط السينمائية وترميمها صوتاً وصورة، وتحويلها الى صيغة رقمية Digital 4K .
ويستكمل أبو بكر في شرح التفاصيل الدقيقة للمشروع ولآلية الترميم،
فيقول: "التقنيات الحديثة أتاحت للقائمين على الترميم إمكانيات هائلة ساهمت
بشكل قوي في الحفاظ على القيمة التاريخية، حيث يتم عمل غسيل للشريط السينمائي
النيجاتيف وباستخدام أحدث أجهزة المسح (Arriscane Xt)، حيث أن هذا الجهاز به سائل أعد خصيصاً لغسل الأفلام من الشوائب
والأتربة التي قد تؤثر سلباً على جودة الفيلم".
ويضيف "مستشار مشروع إحياء التراث المرئي" أنه بعد الغسيل
يتم مسح الفيلم كادر تلو الآخر وتحويله إلى الصيغة الرقمية، ويتم أيضاً نقل شريط
الصوت، وترميمه وإعادة ضبطه ومن ثم نقله إلى الصيغة الرقمية، وبذلك يمكن الحصول
على نسخة رقمية بجودة عالية جداً، وهذا لا يعني التخلص من شرائط السينما، إنما
إعادة الاحتفاظ بها بالطرق والمواصفات القياسية، فالصيغة الرقمية تسهل التعامل
والمشاهدة والأرشفة الرقمية وكيفية استعادة الفقرات، حسب قوله.
المشروع القائم حالياً بين هيئة الاستعلامات ومدينة الإنتاج الإعلامي
قاصر على الأفلام التي تمتلكها هيئة الاستعلامات فقط، وهي ليست بالقليلة، حيث تقدر
أعداد جريدة مصر السينمائية بأكثر من 2400 فيلم، هذا بخلاف الأفلام التاريخية التي
وثقتها الهيئة خلال السنوات السابقة، وهي أفلام تسجيلية قومية، تتضمن أحداث مثل
إنشاء قناة السويس، وتحويل مجرى النيل وبناء السد العالي وحرب الاستنزاف وغيرها.
يقدر "أبو بكر" المدة التي ستنتهي فيها عملية الترميم بنحو
سنتين على الأقل، نظراً لكبر عدد الأفلام، ولإن العمل يتم بكفاءة عالية ودقيقة،
ولم تقرر الهيئة العامة للاستعلامات الطريقة التي ستطرح بها هذه المواد عقب
الانتهاء منها، وما إذا كانت ستطرح على منصة رقمية خاصة بالهيئة مقابل عائد مادي،
أم ستذاع على شاشات الفضائيات، وستُحدد استراتيجية الأرشيف والعرض عقب الانتهاء
الكامل.
ينهي الدكتور أبو بكر حديثه بالتأكيد على أن الهيئة العامة
للاستعلامات تعمل على ترميم ومعالجة الأفلام التي تمتلكها، وأنه رغم تكلفة المشروع
الضخمة إلا أنه عظيم الفائدة، منوهاً إلى أن معظم الدول حافظت على أرشيفها
السينمائي، من خلال وجود (سينماتيك) لأرشفة الفيلم الروائي، فمصر لديها تاريخ سينمائي
كبير، متمنيا أن يقوم المركز القومي للسينما بنهج هيئة الاستعلامات وإنشاء دار
سينماتيك على غرار دار الكتب والوثائق القومية، وتوثيق تاريخ السينما في مصر.