تحقيق- نادية جمال وشروق طارق وأماني عمار:
في التاسع
عشر من أبريل عام ٢٠١٩، وفي تمام السادسة صباحاً خرج "شعبان. م" من
منزله بالمنيا، دون إخبار زوجته. كان من المقرر له الذهاب بصحبة أخيه ومجموعة من
أصدقائه في مهمة عمل عادية، لكنه سلك طريق آخر، فقرر الذهاب لمنزل
"ج.أ.ع" لاستكمال أعمال الحفر والتقنيب عن الآثار، ليستقبل أخيه بعدها
مكالمة في منتصف اليوم تخبره أن العامل البالغ من العمر ٢٢ عاماً لقى حتفه، نتيجة
انهيار جوانب الحفرة التي بلغ عمقها ٥ أمتار عليه.
توجهت أجهزة
الأمن بالتنسيق مع الوحدة المحلية التابعة للمركز إلى مكان الواقعة، لاستخراج
الجثة، وتم القبض على صاحب المنزل.
الواقعة
السابقة التي سردها عدد من أهالي مركز بني مزار عن عملية تنقيب الآثار في المنيا،
خاصةً في قرية البهنسا الأثرية، كشفت عن خفايا وقائع الكشف عن الآثار والوسائل
المستخدمة، إذ يغلب انتشار الوسائل التقليدية كالفئوس ولمبات الإنارة وموتور رفع
المياه، وغالبا ما يكون التنقيب سبب رئيسي في إنهاء حياتهم.
سبع سنوات
كاملة، تفصل الواقعة السابقة عما حدث في ٢٠١٢، عندما لاحظ "جمعة. ص"
وجود جزءًا في أرضه لا ينبت فيه الزرع، فشرع الرجل القاطن في مركز بني مزار في
الاستعانة بدجال أو كما يطلق عليه "شيخ روحاني"، لترجيح الخاطرة التي
جالت في وجدانه عن حتمية وجود آثار في هذا الجزء، إذ أشار عليه بالبدء في أعمال
الحفر فوراً، وأخبره إن هذه الأرض تحمل "خيراً كثيرا".
بدأ المزارع
البالغ من العمر ٣٥ عاماً في أعمال الحفر، واستعان بالفئوس وأدوات الإنارة، وبعدما
بلغ عمق حفرته ٩ أمتار، أراد أن يزيد ٧٠ سنتيمتر آخرين، ما أدى إلى سقوط صخرة
كبيرة عليه أدت لوفاته، بعدها تسرب الخوف إلى الحفارين، وقرروا ألا يخبروا قسم
الشرطة بالواقعة، واتفقوا على دفن "جمعة" في الحفرة ذاتها، وعادوا بعد
ستة أشهر لاستكمال أعمال الحفر والتنقيب، وكان أحد أقارب الضحية بينهم، لكن لم
يتمالك نفسه أمام ما حدث، وذهب لإبلاغ قسم الشرطة التابع للمركز، وبالفعل تم القبض
عليهم.
وفقاً لما
يرويه عدد من أهالي بني مزار، فالتنقيب عن الآثار في مكان ما لا يبدأ بين ليلة
وضحاها، بل يبدأ الأمر بشواهد عدة من بينها، الموت المفاجىء للماشية والأغنام
والطيور، بأعداد كبيرة، أو امتناع الزرع عن الازدهار في جزءٍ ما من الأرض، أو شعور
أهل المنزل بوجود أرواح أخرى تسكن وتتقاسم معهم منزلهم، وحسب تلك المعتقدات، تؤكد
هذه الأدلة وجود كنز مخفي تحت الأرض.
خرافات
وأساطير وخراب
بيت
"سالم.أ.م"، تبلغ مساحته مائتي متر مربع، مكون من أربع غرف، وخُصصت غرفة
صغيرة في نهايته لرعاية الأغنام والماشية، وفي هذه الغرفة تحديدا، لاحظ المالك موت
اثنين من الخراف بشكل مفاجيء، وبعدها طال الموت عدد من الماشية.
بدأ
"سالم" يردد ما حدث في غرفة الماشية في منطقته إلى أن أشار عليه أحد
أصدقائه باستدعاء دجال، لمعرفة ما إذا كان هناك كنز أسفل منزله من عدمه، وبالفعل
استدعى "سالم" الدجال، وأخبره بوجود آثار في باطن الأرض، وطلب منه البدء
في أعمال الحفر، وبواسطة الدجال تم جلب العمال، وحفروا نحو ١٢ متر في
باطن الأرض، وعندما بدأت المعالم الأثرية في التجلي أصاب عمى الطمع بصيرة
"سالم"، وقرر تسميم الدجال والحفارين، وبمساعدة أصدقائه دفنهم في منطقة
نائية، وبعدها تعرض "سالم" للنصب من قبل أحد الأشخاص الذي أقنعه
بجاهزيته لشراء الآثار، وسدد له أول دفعة من الأموال، وعندما توجه لصرفها اتضح إنها
عملات مزورة، ما أوقعه في يد الشرطة، وبالاعتراف تكشفت معالم الجريمة كاملة.
يحكي لنا
"صالح"، أحد العاملين في التنقيب عن الآثار بالمنيا، طريقة التواصل بين
المنقبين وبعضهم البعض، إذ يبدأ الأمر بصاحب المنزل الذي يشعر بوجود كنز أسفل
بيته، ليبدأ باستدعاء دجال، "يعتقد أنه شيخ وله صلة مباشرة بالجن"،
ليؤكد الدجال بشكل قطعي وجود آثار بمنزله، ويوجههم بالعمق اللازم للحفرة.
يساعد
الدجال في جلب الحفارين، بسطاء، تدفعهم سوء أوضاعهم الاقتصادية للعب هذا الدور،
ويعتبر الحفارين الحلقة الأضعف في هذه السلسلة، فهم الأقل ميزانية، ودائماً ما
يواجهون الموت نتيجة لانهيار جوانب الحفرة أو سقوط صخر أو الاختناق بسبب انبعاث
غاز الميثان.
بعد
الانتهاء من حفر العمق المقرر، تبدأ المعالم الأثرية في الظهور، ليأتي دور
"الخبير"، وهو شخص متخصص بالآثار، تُوضع له علامة مميزة في المكان،
كورقة نتيجة بتاريخ حالي مكتوب عليها جملة ما، يتم الاتفاق عليها، ويُصور المكان
بأكمله ويُرسل له الفيديو، للتأكد من صحة المكان وواقعية وجوده، وبعدها يأتي
الخبير ويبدأ بالكشف على صحة الآثار المكتشفة، ويحدد السعر المناسب، ويمثل حلقة
وصل بين المنقبين والمشتري.
عملية
التنقيب عن الآثار حلقة مفرغة من الاستنزاف التام لصاحب المكان، فما أن يأتي
الدجال حتى يُدفع له مبدئياً مبلغ يتراوح من 3 إلى 5 آلاف جنيه، وبعد أن يشرع في
أعمال الحفر تتصاعد وتيرة الطلبات، فيطلب أموال متفرقة على مراحل، لجلب بخور خاص،
وزئبق أحمر، يقول إنه يمثل طعام للجن الحارس للمقبرة الفرعونية، ووفقا
لـ"صالح" يحصل الدجال في الشهر الواحد على ٢٥ ألف جنيه كحد أدنى.
يصف
"صالح" نفسه بالوسيط، إذ يعد أداة وصل بين المنقبين والخبير، ويتقاضى
نظير ذلك ثمناً رفض الإفصاح عنه، موضحا أن التنقيب عن الآثار وحلم الثراء بات أمل
الكثير من أهالي قريته، ويقدر عدد البيوت التي تنشط في هذا المجال من حوله بنحو ٢٥
بيت.
لا تقف حدود
التنقيب عن الآثار عند أصحاب البيوت والممتلكات الخاصة فقط، بل امتدت لتشمل أراضٍ
عامة تابعة للدولة، ففي أغسطس عام ٢٠١٩، اتجه "م. أ" إلى قسم شرطة بني
مزار بالمنيا، للإبلاغ عن وفاة ٥ من أصدقائه أثناء التنقيب في منطقة شباب
الخريجين، فانهارت عليهم حفرة يبلغ عمقها ١٢ متر، وانتقلت قوات الأمن إلى مكان
الواقعة وبدأت رحلة استمرت 10 أيام للبحث عن الجثامين.
ولا يقتصر
مصير المنقبين عن الآثار على الموت فقط، ففي حالات أخرى يتم اكتشاف الأمر مبكراً
من قبل الجهات الأمنية، وينتهي الحال بوقوعهم تحت وطأة العقوبات المشددة، ففي
نوفمبر ٢٠١٩، ذهب "محمد. م.ع"، ٣٦ عاماً إلى قسم شرطة المنيا، ليبلغ عن
شركائه "محمد. ف. ك"، ٤٠ عاماً، عضو مجلس إدارة الجمعية التعاونية
التعليمية للمعاهد الخاصة، و"عمار. م. ج"، ٢٥ عاماً، طالب بالسياحة
والفنادق، و"محمود. أ. م"، ٢٤ عاماً، طالب بالمعهد العالي للهندسة،
بالاتفاق مع "ي. م. ع"، ٤٥ عاماً، بالتنقيب عن الآثار داخل المدرسة
القومية الخاصة.
أجهزة الأمن
ألقت القبض على المتهمين أثناء التنقيب داخل غرفة المعلمين، إذ تبين وجود حفرة
بعمق ٢٥ متر، وعُثر على الأدوات المستخدمة "فأس وبلطة وبخور ومياه ورد ووسائل
إنارة"، ما كان يهدد حياة المئات من الطلاب والمعلمين بالخطر، حال انزلاق أي
منهم في هذه الهوة العميقة.
حامد مراد،
محام، قال إنه وفقاً للمادة ٤٢ من قانون العقوبات المصري، "يُعاقب بالسجن مدة
لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على سبع سنوات وبغرامة لا تقل عن 3 آلاف جنيه ولا
تزيد على 50 ألف جنيه كل من سرق أثراً أو جزءًا منه مملوك للدولة، أو أخفاه، أو
اشترك في شيء من ذلك، ويحكم في هذه الحالة بمصادرة الأثر والأجهزة والأدوات
والآلات والسيارات المستخدمة في الجريمة لصالح الهيئة العامة للآثار".
ويشير
المحامي أسامة الحلو، إلى إن عقوبة الاتجار بالآثار لا تقف عند حد المادة ٤٢ فقط،
وغالبا ما تتقاطع هذه الجريمة مع جرائم أخرى، كالقتل مع سبق الإصرار والترصد
والسرقة، ما يجعل غالبية المتهمين يخضعون لعدد كبير من العقوبات، وفقاً لمواد
قانونية مختلفة.
ذبح
الأطفال..خرافات "فتح المقابر"
في نهاية
شهر مايو عام ٢٠١٩، وفي صحراء الواحات بالقرب من محافظة الفيوم، سمع عدد من البدو
صوت صراخ طفل صغير يأتي من مكان بعيد، وبتتبع مصدر الصوت، شىاهدوا شاب عشريني
يحاول ذبح طفل أمام مقبرة أثرية، فحاصروه وأنقذوا الطفل "محمود" الذي
تقيم عائلته في الفيوم، وتم إبلاغ الجهات الأمنية وألقت القبض على الشاب الذي أتضح
أنه يعمل مع آخرين في التنقيب عن الآثار، وأرادوا ذبح "محمود" حتى تفتح
لهم المقبرة.
لا تقف
الأساطير والخرافات في عالم الاتجار بالآثار عند حد الجن والزئبق الأحمر فقط، بل
تتسع أحياناً لتتطلب ذبح طفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات، بصفتهم أرواح ذكية،
مطهرة من الخطايا، ويتم نثر دمائهم على أرجاء المقبرة، قرباناً لحارسها من الجن،
وفك الرصد الفرعوني.
في قرية أم
عزام بمحافظة الإسماعيلية، أشار أحد السحرة على الأب بذبح ابنه حتى يستطيع استخراج
الذهب بعد التقرب بدمه إلى الجان، ولكن نبه أحد الأطراف الأم أن زوجها ينتوي ذبح
ابنهما البالغ من العمر 7 سنوات، فهربت الأم بالطفل إلى بيت عائلتها طلبا للحماية.
وقبل عامين
في سوهاج، ألقت أجهزة الأمن القبض على 3 أشخاص أثناء قيامهم بالتنقيب عن الآثار
داخل مسكن أحدهم بمركز دار السلام، وبالفحص تم العثور على جثة طفلة لم يتعد عمرها
9 سنوات بها أثار ذبح، وبإجراء التحريات تبين أنها ابنة أحدهم وأنه قام بذبحها بعد
أن أقنعه بذلك أحد المشعوذين لفتح المقبرة.
وفي قرية
دشلوط بمحافظة أسيوط، تقدم أب ببلاغ يفيد بتغيب طفلته ذات التسع سنوات، وتم العثور
على جثة الفتاة بين أكوام القمامة، وبإجراء التحريات تبين قيام سيدتين من أسرتها
بخطفها وذبحها بناءًا على طلب أحد الدجالين، لفتح مقبرة مدفونة أسفل منزلهما
بالقرية.
انفوجراف :